فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ} قال بعضهم: هذا الخطاب لليهود وإن كنتم في ريب: أي في شك {مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه ليس من الله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} أي من مثل هذا القرآن من التوراة، وقابلوها بالقرآن، فتجدوها موافقة لما في التوراة، فتعلموا به أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يختلقه من تلقاء نفسه وأنه من الله تعالى: {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله} أي استعينوا بأحباركم ورهبانكم، يعني عبّادكم {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تشكون فيه.
وقال بعضهم: نزلت في شأن المشركين {وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ} أي في شك {مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن وتقولون: إنه اختلقه من تلقاء نفسه {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} أي فاختلقوا سورة من مثل هذا القرآن، لأنكم شعراء وفصحاء {وادعوا شُهَدَاءكُم} أي استعينوا بآلهتكم، ويقال: استعينوا بخطبائكم وشعرائكم {إِن كُنتُمْ صادقين} أن محمدًا يقوله من تلقاء نفسه.
وقال قتادة: معناه فأتوا بسورة فيها حق وصدق لا باطل فيها.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: الهاء إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن قرأ الكتب ولا درس فأتوا بسورة من رجل لم يقرأ الكتب، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقال: هذه الآيات أصل لجميع ما تكلم به المتكلمون، لأن في أول الآية إثبات الصانع ثم في الآية الأخرى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالله تعالى أمرهم بأن يأتوا بعشر سور فعجزوا عنها، ثم أمرهم بسورة من مثله، فعجزوا عنها، فنزلت هذه الآية: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] الآية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} وفى سورة يونس: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} وفى سورة هود: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}.
يسأل عن قوله في الأولى: {من مثله} وفى الثانية: {مثله} وما الفرق بين الموضعين؟ ولم قيل في سورة هود بعشر سور؟ ولم وصف بمفتريات؟ ولم قال في البقرة: {فادعوا شهدائكم} وفى الموضعين الآخريين: {من استطعتم} فهذه أربع سؤالات؟
والجواب عن السؤال الأول: أن المراد إراءتهم ما يرفع شكهم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكأن قد قيل: إن شككتم في نبوته وتخصيصنا إياه بذلك فلتأتوا برجل منكم غيره يصدر عنه أو يأتى بسورة واحدة من نمط طا سمعتم من محمد صلى الله عليه وسلم وائتوا بشهداء يشهدون أن غيره قد سمع منه ما طلبتم به فإذا عجزتم عن ذلك مع التماثل في الخلق والعلم بمقادير الكلام، إذ ليس بغير لسانكم المألوف عندكم فإذا عجزتم عن ذلك ولابد من عجزكم فاتخذوا وقاية تنجيكم من النار التي يخبركم أنها معدة لمن يكذبه فلما كان المراد هنا ما ذكرناه من التعيضية في قوله تعالى: {من مثله} وأما الوارد في سورة يونس فإنما أريد به ما يجرى مع قوله تعالى: {أم يقولون افتراه}. فقيل لهم: إذا كان مفترى كما تزعمون فما المانع لكم عن معارضته فائتوا بسورة مماثلة للقرآن، فالمراد هنا نفى كلام مماثل للقرآن وإقامة الحجة عليهم بعجزهم عن ذلك والمراد في البقرة نفى شخص يماثله صلى الله عليه وسلم في أن يسمع منه ما يماثل سورة واحدة من مثل القرآن في فصاحته وعجائبه، فاختلف المقصدان في السورتين مع الائتلاف في تعجيزهم عن هذا وهذا فلما اختلفا لم يكن بد من من في الأولى لإحراز معناها ولم يأت في يونس لحصول المعنى المقصود فيها دون من.
فإن قلت فإن من لا تمنع هذا المعنى المقصود في يونس قلت: إذا كان المعنى يحصل بثبوتها وسقوطها على السواء فقد بقى رعى الايجاز وهو مقتض سقوطها، أما المعنى المقصود في البقرة فلا يحصل إلا بمن فلم يكن بد منها هنا، فورد ذلك كله على ما يجب ويناسب.
والجواب عن السؤال الثانى: وهو قوله تعالى في سورة هود: {بعشر سور} فإنه والله أعلم لما قيل مفتريات فوسع عليهم ناسبة التوسعة في العدد المطلوب لأن الكلام المفترى أسهل فناسبته التوسعة.
أما الوارد في السورتين قبل فلم يذكر لهم فيها أن يكون مفترى بل السابق من الآيتين الممثالة مطلقا فذلك أصعب وأشق عليهم مع عجزهم في كل حال، فوقع الطلب حيث التضييق بسورة واحدة وحيث التوسعة بعشر سور مناسبة جليلة واضحة وقد جاوب بما هذا معناه بعض المفسرين.
والجواب عن الثالث: أنه وصف لهم المطلوب منهم هنا بأن يكون مفترى ليحصل عجزهم بكل جهة فلا يقدرون على وجود شخص مماثل له صلى الله عليه وسلم في ظاهر الصورة الجنسية سمع منه ما يسمع من محمد صلى الله عليه وسلم ولا يقدرون على مثل سورة واحدة من سور القرآن.
ولما كان ظاهر هاتين الآيتين المماثلة مطلقا قيل بعد ذلك: {ائتوا} بكلام مفترى على سهولة ما لا يتقيد بسوى الفصاحة وجاء ذلك من طلبهم بالتدريج، فأولا بالممثالة من غير ذكر: {مفترى} ثم قيل لهم: جيئوا بمفترى فلم يبق لهم عذر إلا العناد.
والجواب عن الرابع: أن قوله تعالى في سورة البقرة: {وادعوا شهدائكم} المراد به من يشهد لكم أن شخصا مثله صلى الله عليه وسلم قد سمع منه ما طلب منكم إذ لا يكتفى في مثل هذا بمجرد دعوى المدعى فقيل لهم: ائتوا بسورة من شخصه مثله في الجنسية وبمن يبتعد لكم بأن قد فعلتم.
وقيل لهم في سورة يونس فئتوا بسورة مثل القرآن واستعينوا عى ذلك بمن قدرتم فلم يطلبوا هنا بمن يشهد لهم وإنما قيل لهم: استعينوا في النظم والتأليف بمن قدرتم لأن سماع ذلك منهم أن لو كان ولا سبيل إليه لا يحتاج معه إلى شهادة شاهد، أما لو ادعوا أن أحدًا سمع منه مثل القرآن لما قتع منهم بمجرد دعواهم ألا ترى استرواحهم إلى اقناع جهلتهم بما حكى سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} والوارد في هود كالوارد في يونس. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}.
لبَّس على بصائر الأجانب حتى لم يشهدوا حبيبه صلوات الله عليه، فتاهوا في أدوية الظنون لما فقدوا نور العناية، فلم يزدد الرسول عليهم إتيانًا بالآيات، وإظهارًا من المعجزات إلا ازدادوا ريبًا على ريب وشَكًّا على شك، وهكذا سبيل من أعرض عن الحق سبحانه، لا يزيده ضياء الحجج إلا عمًى عن الحقيقة؛ قال الله تعالى: {وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، وليبلغ عليهم في إلزام الحجة عرّفهم عجزهم عن معارضة ما آتاهم من معجزة القرآن الذي قهر الأنام من أولهم إلى آخرهم، وقدَّر عليهم أنهم لو تظاهروا فيما بينهم، واعتضدوا بأشكالهم، واستفرغوا كُنْه طاقتهم واحتيالهم لم يقدروا على الإتيان بسورة مثل سورة القرآن. اهـ.

.سؤال: فإن قيل: سورة البقرة ليست من أول القرآن نزولًا، فلا يحسن فيها ما ذكرت؟

قلت: أو القرآن سورة الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، على هذا الترتيب إلى سورة الناس، وهكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ، وهو يدل على هذا الترتيب كان يعرضه عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام كل سنة أي: ما كان يجتمع عنده منه، وعرضه عليه الصلاة والسلام في السنة التي توفي فيها مرتين. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ}.
قال ابن عرفة: لمّا تقدم الكلام معهم في الإيمان بتوحيد الله والإيمان بالرسالة عقب ذلك بما جرت به العادة في المخاطبة بالجدل، وهو أنكم وقع منكم شك في البرهان الذي أتاكم به الرسول دليلا على صحة رسالته فعارضوه، وهذا أحد أنواع الجدل وهو إما القدح في دليل الخصم، أو معارضته بدليل آخر.
قيل: لابن عرفة: هم ادعوا أن القدح في الدليل فهلا عجزوا بذلك؟
فقال: قد نجد الخصم يدعي دعاوي جملة ويقدح في دعاوي خصمه، ولا يقبل منها شيّا إلا ما يمكن أن يكون فيه شبهة.
قال: والأظهر أن الريب هو عدم الجزم بالشيء، فتناول الظن والشك والوهم، لأن الإيمان لا يحصل إلا بالجزم اليقيني، وما عداه كله ليس بإيمان.
قال: وعبّر ب {إن} دون إِذَا لأن المراد التنبيه عن حالهم، وانها مذمومة شرعا فعبر عنها لما يقتضي عدم الوقوع وإن كانت واقعة.
وأورد الزمخشري أن نزّل يقتضي التنجيم، وأنزل يقتضي الإنزال دفعة واحدة.
وأجاب عن ذلك بأن المراد أنه نزل شيئا بعد شيء.
قال ابن عرفة: ونقضوا هذا بقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً وَاحِدَةً} وتقدم الجواب عنه.
قال التلمساني: من أن اللّفظ قد يدل على المعنى بظاهره ولا يظهر بخلافه في بعض الصور.
فإن قلت: ما الحكمة في تنزيله منجما؟
قلنا: علله بعضهم بما في الآية وهي: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} قال ابن عرفة: يرد عليه أنه من الجائز أن يثبت الله تعالى به فؤادك صلّى الله عليه وسلم مع نزوله جملة واحدة.
قال: ويمكن تعليله بأن ذلك الأظهر فيه كمال الدلالة على صدقه لأن العادة أن رسول الملك إذا كذب عليه إنما يكذب مرّة واحدة وبعيد أن يكرر الكذب خشية التفطن منه والعلم به فلو أنزل عليه في مرة واحدة لقويت التهمة في حقه فلما تكرر إنزاله مرارا كان ذلك ادعى لجواب تصديقه.
قوله تعالى: {على عَبْدِنَا}.
ولم يقل على رسولنا تنبيها على ما يقوله أهل السّنة من أنّ الرّسول من جنس البشر وعلى طبعهم وأنّ وصف الرسالة أمر اختص الله به من شاء من عباده وليست في ذواتهم زيادة موجبة بوجه.
وقال القرطبي: إنما قال ذلك لأن العبودية تقتضي التذلل والخضوع ولا شك أن التذلل للبارئ جل وعلا هو أشرف الأشياء.
قال ابن عرفة: نمنع ذلك بل وصف الرسالة أفضل منه فهلا قيل: مما نزلنا على رسولنا؟
وقال بعضهم: إنما ذلك تنبيها على أنّهم إذا ذموا على مخالفته مع استحضار كونه عبدا فأحرى أن يذموا على ذلك مع استحضار كونه رسولا من عند الله.
وقرئ: {مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا}.
فإن قلت: إنما هم في ريب مما نَزَلَ على عبدنا هذا فقط، قلنا: الشك في المنزل على هذا شك في المنزل على من قبله لأن الكل رسل من عند الله يصدق بعضهم بعضا فالشكّ في أحدهم شكّ في الجميع.
قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: قال الأكثرون: مثل نظمه ووصفه وفصاحة معانيه ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص الله به القرآن، وبه وقع الإعجاز عند الحذاق.
وقال بعضهم: من مثله في غيوبه وصدقه وقدمه في التحدي وقع عند هؤلاء بالقديم.
قال ابن عرفة: إن قلت: هذا الخلاف مخالف لما نصّ عليه الفخر وإمام الحرمين في الإرشاد من أن المعجزة من شرطها أن تكون حادثة لأنها إن كانت قديمة استحال أن يأتي بها الرسول، أو تكون دليلا على صدقه لأن الرسول حادث.
قلت: القديم هنا ليس هو كل المتحدى به هو جزء من أجزاء المعجزة التي تحدّى بها الرسول، فالرسول تحدى بكلام لا مثل له في صدقه وإخباره بالغيوب وأن مدلوله هو القديم.
قال المقترح وابن بزيزة في شرح الإرشاد: اختلفوا هل يجوز أن تعلم صحة الرسالة بغير المعجزة أم لا؟
فأجاز القاضي أبو بكر الباقلاني وابن فورك في تأليفه في الأصول ومنعه إمام الحرمين هذا في الجواز.
وأما الوقوع فلم يقع في الوجود إلا مع المعجزة اتفاقا وكان بعضهم يقول: هذا إنما لا ينبغي الخوض فيه لأنه كلام لغير فائدة لا ينبغي عليه كفر ولا إيمان.
وكان الشيخ الصالح الزاهد أبو محمد عبد الهادي نقل عنه بعضهم أنه قال: يجوز في العقل أن يخلق الله خلقا أكرم عليه من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فسمع بذلك الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن المنتصر الصوفي فأنكره الإنكار التام وألزمه إلزاما شنيعا.
واجتمع بابن عبد السلام القاضي فخفف أمره حتى وقعت بين الشيخين وحشة عظيمة بسبب قوله يجوز أن يخلق الله عقلا أكرم من نبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يحتمل أن يريد بالشهادة أي الاستصراخ للاجتماع والتعاون على الإتيان بمثله ويحتمل أن يريد فأتوا بمثله واستحضروا شهداءكم لا شاهدا واحدا يشهدون لكم أنه من عند الله.
وعبّر ب {إِنْ} تنبيها على أن صدقهم في ذلك محال. اهـ.

.من فوائد تقي الدين السبكي:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَوْله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ {مِنْ مِثْلِهِ} مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ صِفَةٌ لَهَا أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَيْسَ مُرَادُهُ التَّعَلُّقَ الصِّنَاعِيَّ، لأَنَّ الصِّفَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَقَدْ صَرَّحَ هُوَ بِهِ، أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بِقوله: {فَأْتُوا} ثُمَّ قَالَ: وَالضَّمِيرُ لِمَا نَزَّلْنَا أَوْ لِعَبْدِنَا قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ: الأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِعَبْدِنَا، وَإِنْ عُلِّقَ بِمَا نَزَّلْنَا فَيَكُنْ بِالنَّظَرِ إلَى خُصُوصِيَّتِهِ فَيَشْمَلُ صِفَةَ الْمُنَزَّلِ فِي نَفْسِهِ وَالْمُنَزَّلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَحَدَّى بِالْقُرْآنِ فِي أَرْبَعِ سُوَرٍ، فِي ثَلاثٍ مِنْهَا بِصِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ تعالى: {لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} وَقَالَ تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} وَالسِّيَاقُ فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ لَفْظَةَ {من} الْمُحْتَمِلَةَ لِلتَّبْعِيضِ وَلابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَتَرْكُهَا يُعَيِّنُ الضَّمِيرَ لِلْقُرْآنِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَمَّا قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} قَالَ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فَتَكُونُ {من} لابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِثْلِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ قَدْ تَحَدَّاهُمْ فِيهَا بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ التَّحَدِّي غَيْرِ الْمَذْكُورِ فِي السُّوَرِ الثَّلاثِ، وَذَلِكَ أَنَّ الإِعْجَازَ مِنْ جِهَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَلاغَتِهِ وَبُلُوغِهِ مَبْلَغًا تَقْصُرُ قُوَى الْخَلْقِ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي السُّوَرِ الثَّلاثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَحَدِّي بِهِ فِيهَا، وَالثَّانِيَةُ إتْيَانُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْمُتَحَدَّى بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلا تُمْتَنَعُ إرَادَةُ الْمَجْمُوعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنْ أَرَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى {ممَا نَزَّلْنَا} الْمَجْمُوعَ بِالطَّرِيقِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا فَصَحِيحٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ رَدَّدَ بَيْنَ ذَلِكَ وَعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الثَّانِي فَقَطْ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ فَمَا قُلْنَاهُ أَرْجَحُ، وَيُعَضِّدُهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الأَقْرَبِ أَوْجَبُ، وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَدْ تُحَدُّوا قَبْلَ ذَلِكَ وَظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ الإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ، لأَنَّ سُورَةَ يُونُسَ مَكِّيَّةٌ، فَإِذَا عَجَزُوا عَنْهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَهُمْ بِالإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِمَّنْ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ أَشَدُّ عَجْزًا فَالأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ لِقوله: {عَبْدِنَا} فَقَطْ وَهَذَانِ النَّوْعَانِ مِنْ التَّحَدِّي يَشْتَمِلانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، لأَنَّ التَّحَدِّيَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِبَعْضِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ وَإِلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالتَّحَدِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مِثْلِ الْمُنَزِّلِ، وَإِلَى أَيِّ سُورَةٍ كَانَتْ فَإِنَّ مَنْ يَكْتُبُ لا يَأْتِي بِهَا فَصَارَ الإِتْيَانُ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْتَنِعٌ كَانَتْ مِنْ كَاتِبٍ قَارِئٍ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ. فَظَهَرَ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ؛ ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِقوله: {فَأْتُوا} والضَّمِيرُ لِلْعَبْدِ. قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ: هَذَا صَحِيحٌ وَتَكُونُ {من} لِلابْتِدَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ احْتِمَالَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا نَزَّلْنَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لأَنَّ السُّورَةَ الْمُتَحَدَّى بِهَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ لابد أَنْ يُخَصَّصَ بِمِثْلِ الْمُنَزَّلِ كَمَا فِي سُورَتَيْ هُودٍ وَيُونُسَ فَإِذَا عَلَّقْنَا الضَّمِيرَ هُنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقوله: {فَأْتُوا} وَعَلَّقْنَا الضَّمِيرَ بِالْمُنَزَّلِ كَانُوا قَدْ تَحَدُّوا بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مُطْلَقَةٍ لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً وَلا مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ؛ فَلَيْسَتْ عَلَى نَوْعٍ مِنْ نَوْعِ التَّحَدِّي فَإِنْ قُلْت {من} عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِلتَّبْعِيضِ فَتَكُونُ السُّورَةُ بَعْضَ مِثْلِهِ يَقْتَضِي مُمَاثَلَتُهَا، قُلْت الْمَأْمُورُ بِهِ السُّورَةُ الْمُطْلَقَةُ و{من} يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَالْمُمَاثَلَةُ إنَّمَا يُعْلَمُ حُصُولُهَا لِلسُّورَةِ بِالاسْتِلْزَامِ، فَلَمْ يَتَحَدُّوا وَلَمْ يُؤْمَرُوا إلا بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقَةٌ لا مِنْ حَيْثُ إنَّ مُقْتَضَاهُ الاسْتِلْزَامُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِالْمُطَابَقَةِ فِي الْكُلِّ الْمُبَعَّضِ لا فِي الْبَعْضِ، فَإِنْ لَزِمَ حُصُولُهَا فِي الْبَعْضِ فَلَيْسَ مِنْ اللَّفْظِ. وَبِهَذَا يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ فَأْتُوا بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِ مَا نَزَّلْنَا، وَفَأْتُوا مِنْ مِثْلِ مَا نَزَّلْنَا بِسُورَةٍ؟ فَنَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بِخُصُوصِهِ فِي الثَّانِي سُورَةٌ مُطْلَقَةٌ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ وَإِنْ كَانَتْ بَعْضُهَا مِنْ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ انْتَهَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.